تسعى الهند للتحول إلى قوة عظمى عالمية، معتمدة على كونها دولة نووية تتمتع بخامس أكبر اقتصاد في العالم وثاني أضخم جيش على وجه الأرض، وفي العام الماضي صنفتها بيانات الأمم المتحدة كأكبر دولة من حيث عدد السكان، متخطية في ذلك الصين التي تربعت على عرش هذا الترتيب طويلاً.
ومنذ استقلالها في عام 1947، سعت نيودلهي لاكتساب مكانة القوة العظمى، ففي وقت مبكر من عام 1949، أعلن جواهر لال نهرو رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك، أن دولته في سبيلها لتحقيق هذا الهدف ليس بسبب طموحها، بل لعوامل القوة التي تمتلكها وحقائق التاريخ والجغرافيا.
وقد أعلن وزير الخارجية الحالي، سوبرامانيام جايشانكار، بعد وقت قصير من توليه منصبه، أن هدف بلاده يتلخص في التحول من «قوة توازن» Balancing Power إلى «قوة قائدة» Leading Power. أي إن الحلم نفسه لم يختلف ما بين جايشانكار المنتمي لحكومة اليمين الهندوسي المتطرف الحليفة للغرب، ونهرو الاشتراكي المناهض للاستعمار الغربي، وسياسات الفصل العنصري في أفريقيا.
يرتبط طموح نيودلهي تحت حكم اليمين الهندوسي المتطرف بسياسة العظمة والتبشير باستعادة عصر ذهبي متخيل، إذ يشعر القوميون الهندوس المتطرفون بالحنين إلى عصر ذهبي سابق على الفتح الإسلامي لم يكن له وجود قط في التاريخ، وهم يرون أن الانتماء للأمة الهندية لا يستحقه إلا من يرون الهند أرضهم المقدسة، بخلاف المسلمين الذين لديهم أماكن مقدسة في بلاد أخرى، وترتبط هذه الدعاية بمغالطات تاريخية دأب العلماء والمتخصصون داخل الهند نفسها على تكذيبها.
وتعد أفكار الناشط فيناياك دامودار سافاركار بمثابة الكتاب المقدس للقومية الهندوسية المعاصرة، وخصوصاً في كتيبه «أساسيات هندوتفا»، إذ غرس فكرة ضرورة جعل الهند أرضاً متجانسة الدين، متأثراً في ذلك بالفاشية الإيطالية، وكذلك بالنازية الألمانية، إذ دعا بهاي بارمانا، رفيق سافاركار إلى معاملة هذا الخطاب ككتاب «كفاحي» لأدولف هتلر، والنظر إلى سافاركار على أنه «الفوهرر» النازي، وحتى اليوم يرى المتعصبون القوميون أنفسهم من أبناء العرق الآري ويؤمنون بتفوقهم على سائر الأجناس البشرية.
يرى قادة اليمين الهندوسي المتطرف الذين يحكمون الدولة منذ 2014، أن سبب تخلف بلادهم سببه أعمال النهب التي ارتكبها الغزاة التاريخيون المسلمون أولاً ثم البريطانيون، وبينما تحظى الدولة اليوم بدعم معسكر الغرب ومن ضمنه بريطانيا، يركز خطاب الكراهية ضد الأقلية المسلمة الهندية والدول الإسلامية خصوصاً باكستان.
فقد انقسمت الهند على أساس ديني عند استقلالها عام 1947، وأخذت باكستان الجانب الأفقر من الدولة، بينما أخذ الهندوس الموارد والأراضي الغنية، وتسبب هذا الانفصال في تعزيز قوة وأكثرية الهندوس، وتحويل مسلمي الهند لأقلية ضعيفة ومنبوذة.
ومنذ قدوم اليمين الهندوسي المتطرف إلى السلطة ركز على حشد الأغلبية خلفه في سياساته الطائفية بشكل أجبر خصومه العلمانيين على مجاراته في بعض الأحيان بدرجات مختلفة، مما رفع مستوى التوتر الطائفي إلى مستوى مرعب، وأصبحت قوات الأمن تعامل المسلمين كأعداء وليس كمواطنين.
ووسط هذه الحملة الشعواء، أهملت الحكومة تنفيذ مهامها الأساسية وانشغلت بإذكاء الأحقاد الدينية لأسباب انتخابية، وهذا من أسباب عدم إعلان الحكومة وصول البلاد للمركز الأول من حيث عدد السكان؛ فالمتحدث باسم حزب المؤتمر المعارض، باوان خيرا، قال:
«هناك أمور مهمة مثل التوظيف ووفيات كورونا وما إلى ذلك، رأينا كيف فضلت حكومة مودي إخفاء تلك البيانات المهمة».
فقد مارست حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، تعتيماً شديداً على البيانات السكانية، ومنعت إجراء أي تعداد منذ عام 2021، وهذا إجراء لم يحدث منذ القرن 19.
بالتوازي مع التحريض الطائفي في الداخل، يتبنى اليمين الهندوسي أطماعاً استعمارية في الخارج، فالهند في نظرهم لا تكتفي بالحدود الحالية، فمنظمة «آر إس إس» الدينية المتطرفة التي تعد الجماعة الأم للحزب الحاكم، تدعو لإقامة «الهند الكبرى» التي تضم أفغانستان وباكستان وبنجلاديش ونيبال وبوتان وسريلانكا والمالديف وميانمار والتبت.
ولتحقيق هذا الحلم الاستعماري، يعمل اليمين الهندوسي المتطرف أولاً على تحويل الهند إلى أمة هندوسية من خلال اضطهاد أكثر من 200 مليون مسلم ودفعهم إما للرحيل أو التحول إلى الهندوسية. وأعلن رئيس المنظمة، موهان بهاغوات، في اجتماع عام في أبريل 2022 أنه سيتم تحقيق هذا الحلم التوسعي خلال 10 أو15 عاماً على الأكثر.
وتبذل نيودلهي جهوداً جبارة في تحديث قدراتها العسكرية، فقد قفز إنفاقها الدفاعي من 49.6 مليار دولار عام 2011، لتصبح ثالث أكبر منفق عسكرى فى العالم في 2022 بمبلغ 76.6 مليار دولار. كما شهدت الأشهر الماضية تزايد دور سلاح البحرية الهندي في أعالي البحار، فقد عملت نيودلهي على توسيع وتحديث قواتها البحرية لتفعيل دورها كقوة عظمى في منطقة المحيط الهندي، ففي مارس 2024، أعلنت البحرية الهندية أنها ستعزز حضورها على جزر في المحيط الهندي قريبة من المالديف، قبل أيام من بدء انسحابها من الأراضي المالديفية بناء على طلب حكومتها، كما شيد الهنود قاعدة عسكرية بجزيرة نائية تابعة لموريشيوس بشكل غير معلن، وقبل ذلك أنشأوا مركز للتنصت والرادار في مدغشقر.
ورغم ذلك تستظل الهند بالمظلة الدفاعية الأمريكية في مواجهة منافسها اللدود، الصين، فتشارك في منتدى «كواد» مع واشنطن وحلفائها، وتستفيد من الدعم الأمريكي الهائل لتحديث قدراتها العسكرية والاقتصادية من أجل تعظيم قوتها، رغم احتفاظها بمشروعها الإقليمي المستقل.
فبجانب احتفاظها بعلاقة قوية مع الولايات المتحدة وحلفائها، تتبنى نيودلهي خطة لدعم تعددية الأقطاب الدولية؛ فقد انضمت إلى عدد من التجمعات غير الغربية التي تتصدرها روسيا والصين مثل مجموعة البريكس الاقتصادية، ومنظمة «شنغهاي» للتعاون الأمني؛ وهذه الأخيرة ليست تحالفاً دفاعياً مثل حلف الناتو ولا حتى محاولة للتمهيد لذلك، بل هو تجمع هدفه مأسسة فكرة تعدد الأقطاب وكسر الاحتكار الأمريكي لهندسة النظام الدولي.
إن نيودلهي ليست حليفة للغرب، بل تتعامل معه بانتهازية فتحصل على مصالحها وفي نفس الوقت تتحاشى دفع ثمن هذه الصداقة؛ فلم تنخرط في الجبهة الغربية ضد موسكو خلال الحرب الأوكرانية ولم تتخذ إجراءات غير مدروسة لاستعداء الصين رغم الحزازات الكبيرة بينهما، بل تتعامل مع كلا الطرفين بشكل براغماتي في سبيل تأمين صعودها نحو القمة وتحقيق حلمها عبر مراكمة القوة وكسب الوقت.
في كتابه الجديد «المسعى غير المكتمل: بحث الهند عن مكانة القوة الكبرى من نهرو إلى مودي»، يتتبع عالم السياسة الكندي ذو الأصل الهندي، تي في بول T.V. Paul، العوائق أمام تحقيق الهدف بعيد المدى للسياسة الخارجية الهندية، حيث تبلغ نسب البطالة بين من تقل أعمارهم عن 25 عاماً نحو 45% وهي نسبة هائلة.
ويؤكد بول أنه ما لم تتم معالجة هذه القضية بشكل عاجل فإنها سوف تؤثر بلا أدنى شك على آفاق النمو في البلاد ومكانتها العالمية، فحتى الآن فشلت الدولة الآسيوية في استثمار عائدها الديموغرافي الكبير من خلال توفير فرص العمل المناسبة لمن هم في سن العمل، وللاستفادة من هذه الطفرة الشبابية، تحتاج البلاد إلى توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل شهرياً، وهو هدف لم تستطع الحكومات المتعاقبة تحقيقه، بسبب السياسات الاقتصادية التي أنتجت قطاع خدمات قوياً لا يمكنه توظيف سوى شريحة صغيرة من السكان المؤهلين، بدلاً من الاستثمار في الصناعات التي تحتاج لوظائف بأجور عالية.
وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة في قطاعات مثل الأدوية والبرمجيات، فإن الهند لا تزال تنفق أقل من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، مما يحد من قدرتها على الإبداع، وينعكس هذا في عدد براءات الاختراع التي تقدمت الصين بطلب للحصول عليها في السنوات الأخيرة، فالرقم يعادل خمسة أضعاف نظيره في الهند، وعلاوة على ذلك، هناك ثلاث جامعات هندية فقط تصنف حالياً بين أفضل 200 جامعة في العالم.
إجمالاً، يعتقد الخبراء أن الطريق لا يزال طويلاً أمام الهند قبل اللحاق بالصين التي تتمتع بقاعدة اقتصادية أكبر وأكثر تطوراً. ناهيك عن التحديات الداخلية التي تواجه البلاد. ومع ذلك، فإن الهند في طريقها إلى أن تصبح قوة عالمية كبرى، وذلك بفضل الحجم الهائل لسكانها واقتصادها، ومن المرجح أن تتحول إلى ركيزة لنظام ثلاثي الأقطاب (مع الصين والولايات المتحدة) في منطقة المحيطين الهندي والهادي.